إيمان في وجه العنصرية: يسوع والمرأة الكنعانية في السياق الفلسطيني[i]  بقلم يوسف كمال الخوري

لطالما جذبت شخصية يسوع المسيح كثيرين، فهو محب للأطفال وشافي للمرضى ومتحنن على الجموع. إلا أنه في ذات الوقت، مثير للجدل. حيث أنه لم يتردد في انتقاد السلطات الدينية ومواجهتها. كما أنه تحدى في كثيرٍ من الأحيان التقاليد الاجتماعية والدينية بكلمات قاسية وقد تكون صادمة. ألم تشعر/ي كذلك يوماً عند قراءتك الأناجيل؟ ألم تصدمك جرأة يسوع، وفي أحيانٍ أخرى، قساوته؟ عندما قرأت قصة مقابلة يسوع للمرأة الكنعانية للمرات الأولى شعرت بالصدمة. فصورة يسوع في الأناجيل وطريقة تعامله مع الضعفاء والمهمشين تبدو مختلفة بشكل درامي عن تلك مع المرأة الكنعانية.

في نص إنجيل متى 15: 21-28، يقوم يسوع وتلاميذه بزيارة فريدة خارج موطنهم، إلى صور وصيدا. قد تكون هذه من المرات القليلة التي يزور فيها يسوع مناطق أجنبية وأممية، فالاعتقاد اليهودي السائد في القرن الأول الميلادي كان بأن الأمم أنجاس، فلا يجوز الالتصاق أو التقرب منهم أو حتى العبور من مدنهم. لذا، فإن زيارة يسوع لمحيط هاتين المدينتين قد تبدو غريبة وغير متوقعة بعض الشيء. تظهر على المشهد امرأة كنعانية، حتى أن متى ومرقس لا يذكران اسمها، بل يكتفيان بوصفها كنعانية (متى 15: 22) وأممية سورية فينيقية (مرقس 7: 26). ولعل ذلك ليعطي انطباعاً عن وجهة نظر اليهود العنصرية الدونية المحتقرة لتلك المرأة وهويتها العرقية. تسجد هذه المرأة أمام يسوع، وبكل إيمان تطالبه بشفاء ابنتها المسكونة بأرواح شريرة. صمت يسوع، إلا أن تلاميذه أصروا بأن يصرفها عنهم. من هنا تأتي إجابة يسوع التي قد تبدو صادمة، “لم أرسل الا الى خراف بيت اسرائيل الضالة.” (متى 15: 24) وأمام إصرارها، قال: “ليس حسناً ان يُؤخذ خُبز البنين ويُطرح للكلاب.” (ع 26) رد المرأة على كلمات يسوع كان ملؤه حكمة وقوة، “نعم يا سيد. والكلاب ايضا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة اربابها.” (ع 27) بعد تلك الإجابة الغنية بالإيمان، أطلقها يسوع وقد شفى ابنتها، بعدما امتدح إيمانها. نعم، إنها لنهاية جميلة، فقد لبى طلبها. إلا أن إجابات يسوع على تضرعات المرأة الكنعانية كانت مثيرة للاستغراب؟ لقد تصعبت منها شخصياً. أليست كذلك؟ كيف يشبه يسوع تلك المرأة بالكلاب؟! أليست إجاباته تعكس نظرة دونية لها؟ لماذا يقسو عليها بهذا الشكل؟ مع النظر للنص بتمعن، قد نتساءل، لماذا قام يسوع بذلك؟

في البداية، نقرأ أن مقابلة يسوع مع المرأة الكنعانية تأتي بعد أحداثٍ كثيرةٍ واجه يسوع فيها الفريسيين بتعاليمهم السطحية عن القداسة (متى 15: 1-20)، وقبل ذلك، واجه التلاميذ، وبطرس مع ضعف إيمانهم (متى 14: 22-32). ثم، نقرأ قصة مقابلة يسوع للمرأة الكنعانية. تلك المرأة “النجسة” التي لديها الإيمان بقدرة يسوع المُعجزية. تنادي المرأة الكنعانية يسوع بألقاب مسيانية   “يا سيد، ابن داوود” (متى 15: 22)،[ii] وتسجد امامه بثقة طالبةً شفاءً لابنتها. إنها لمفارقة مُلفته بين إيمان التلاميذ اليهود الضعيف في الإصحاح 14 وإيمان المرأة الأممية القوي في الإصحاح 15، انتقاد يسوع لخوف التلاميذ وبطرس وامتداحه لثقة المرأة الكنعانية. تلك المرأة الغريبة، تعرف من هو يسوع، السيد ابن داوود، أما بطرس والتلاميذ –اليهود-احتاجوا معجزة ليدركوا ذلك.  أنظر جدول (1) للتوضيح

جدول (1)

التلاميذ المرأة الكنعانية
يهود/أطهار (متى 15: 1-20) نجسة (متى 15: 22، 26)
بعد المعجزة: سجود وعبادة (متى 14: 33) قبل المعجزة: سجود وعبادة (متى 15: 25)
بعد معجزة: ابن الله (متى 14: 33) قبل معجزة: يا سيد، ابن داوود (متى 15: 22)
ضعف إيمان (متى 14: 31) قوة إيمان (متى 15: 28)

 

بعد ذلك، نجد أن رد يسوع على المرأة يأتي بعد صمتٍ. لعله أراد أن يختبر عقلية تلاميذه! فقد علّم سابقاً عن القداسة وأكد لهم عملياً على شمولية إرساليته، فقد شفى سابقاً خادم قائد المئة الأممي (متى 8: 8-13). أليس كذلك؟ هل فهموا الدرس؟ على ما يبدو لم يفهموه! فقد طالبوه بأن يصرفها عنهم، فهي امرأة مُلحة وأممية نجسة. أتت إجابة يسوع بما كانوا يفكرون بأنفسهم، بأن الخلاص فقط لهم، لليهود. إنها لفكرة مغموسة بالعنصرية العرقية. أليس الخلاص لليهود أولاً؟ وحتى لليهود فقط، بحسب اعتقادهم؟ استخدم يسوع ألقاب عنصرية تُعبر عن فكر تلاميذه، فالأمم نجسة كالكلاب. أيحق للكلاب الأنجاس الخلاص المعطى لإسرائيل واليهود فقط؟ كلمات يسوع أتت كمرآة لتعكس للتلاميذ عنصريتهم. للقارئ المتمعن في النص سوف يلحظ بأن يسوع لم يوجه كلماته مباشرة للمرأة (أعداد 24 و26)، أما في العدد 28، فهو يوجه كلامه مباشرةً للمرأة. يمكننا الاستنتاج بأن كلمات يسوع –بالمقام الأول-كانت موجهة للتلاميذ. حاشا، أن يسوع نفسه فكر ذلك عن المرأة الكنعانية. إلا أن ذلك الموقف شكل درساً لتلاميذه ليكتشفوا قصورهم الفكري، أمام إيمانها العظيم. أنظر جدول (2) التوضيح

جدول (2)

                 العدد إجابة يسوع السامع المستهدف
24 و26 فأجاب يسوع وقال التلاميذ
28 فأجاب يسوع وقال لها المرأة الكنعانية

 

المرأة الكنعانية في السياق الفلسطيني

قد نجد في مقابلة يسوع المسيح للمرأة الكنعانية انعكاساً ملفتاً لواقعنا الفلسطيني. فهناك الكثير من التشابهات ما بين شخصيات وعقليات النص، مع تلك في يومنا هذا. فإن الاحتلال الإسرائيلي والإيديولوجية المسيحية الصهيونية تنظر بدونية وعنصرية اتجاه الفلسطينيين بشكل عام. وهنا يمكننا أن نرى تشابهات عدة بين الفلسطينيين والمرأة الكنعانية. فكلاهما يقع ضحية لفكر عرقي متسامي ينظر للأخر بإستحقار يصل لحد سلب الأخر إنسانيته ووجوده. فكما سُلبت المرأة الكنعانية من وجودها بتجاهل اسمها، غالباً ما يتجاهل الإسرائيليون والمسيحيون الصهاينة وجود الفلسطينيين.

قد أتت المرأة الكنعانية طلباً لتدخل إلهي يُحرر ابنتها من سطوة الأرواح الشريرة، كذلك يتضرع الفلسطيني أمام الله راجياً عدلاً وتحرير من ظلم الاحتلال. في كلا الحالتين نشهد حالة من الصمت الإلهي، صمت يسوع للحظات. من الممكن بأن المرأة اعتقدت بأنه يتجاهلها، إلا أنها ألحت عليه حتى انتفض تلاميذه محاولين إسكاتها وطلبين منه طردها عنهم.  وفي سياقنا الفلسطيني، قد يبدو الله صامتاً أمام تضرعات الفلسطينيين لأكثر من سبعين عامٍ، إلا أنهم لم يفقدوا الإيمان بعدل الله الذي سوف يتحقق. إلا أنهم أيضاً –كالكنعانية- يعانون من محاولات الإسكات والتجاهل على أيدي الاحتلال والمسيحيون الصهاينة. القراءة المدققة للنص تظهر بأن صمت يسوع (الله) كان أمراً مقصوداً. فلربما كان ينتظر من تلاميذه تصرفاً يليق بما تعلموه من سيدهم. ولعل صمت الله اليوم هو انتظار يتطلب من الكنيسة والمؤمنين التصرف بما يليق بما يتعلموه من سيدهم.

إن كلمات يسوع القاسية التي خاطبت عقلية تلاميذه لازالت فاعلة لتعكس وتنتقد العقلية الاحتلالية الإسرائيلية والمسيحية الصهيونية. ولعل الأكثر إثارة أن بعض العبارات التي استخدمها يسوع مطابقة لتلك التي يطلقها الإسرائيليين المتشددين على الفلسطينيين. فكما شُبهت المرأة الكنعانية بالكلاب، يُشبه الفلسطينيين بالكلاب.[iii] بالإضافة لذلك، فإن الإسرائيليين والمسيحيين الصهاينة يعتقدون بأن لإسرائيل واليهود الأحقية والأولوية في الأرض والخلاص،[iv] بينما على الفلسطينيين قبول الظلم ومعاملتهم بدونية.[v] وعلى الرغم من ذلك، إن الفلسطينيين كالكنعانية لم يستسلموا في مواجهة التجاهل والظلم، بل أصروا ولازالوا يُصرون بإيمان على نول الخلاص من يد الله. أنظر جدول (3) توضيح

جدول (3)

المرأة الكنعانية الفلسطينيين
تجاهل لوجودها تجاهل لوجودهم
أممية، كلاب إرهابيين، كلاب
تصرخ بإيمان يصرخ بإيمان بعدالة الله
تطلب تحرير يطلب تحرير لأرضه وشعبه
شفاء إيمان بالشفاء القادم وعدالة الله

في النهاية قد نالت المرأة الكنعانية مُرادها وكُفأت وامتُدح إيمانها. بالمقابل، موقف يسوع ترك التلاميذ عراة ليتواجهوا مع فكرهم العنصري والدوني اتجاه الأخر. قد يبدو الله صامتاً اليوم، لكنه ينتظر من الكنيسة بأن تكون صوته النبوي الذي يواجه ويرفض الظلم والعنصرية. إن التدخل الإلهي لإنصاف المظلوم أمر حتمي، كما يعلمنا التاريخ الكتابي. إلا أن مساحة صمت الله فرصة للكنيسة بأن تكون الكنيسة الحقيقية. فهل تكون كذلك؟

 

يوسف كمال الخوري: محاضر في دراسات الكتاب المقدس وعلم الإرساليات في كلية بيت لحم للكتاب المقدس

 

[i]  ضمن سلسة مقالات حول لاهوت الدونية.

[ii]  الكلمة المستخدمة في اليونانية هي κυρίου كيروس وتعني  رب وسيد.

[iii] سياسي وعضو الكنيست الإسرائيلي أورن هازان استخدم كلمات “كلاب وحشرات” لوصف أسرى فلسطينيين https://electronicintifada.net/blogs/ali-abunimah/video-israeli-lawmaker-insults-palestinians-insects-and-dogs

[iv]  إن فكرة الخلاص مرتبطة بالأرض عند شعب إسرائيل القديم. فإن خلاصهم من العبودية قد توج بدخولهم للأرض “الراحة”.

[v] من أوضح الأمثلة على ذلك هو قانون القومية الإسرائيلي الذي يعامل اليهودي على أنه مواطن درجة أولى بينما يهمش الأخر.