التمييز والتفرقة من منظور الكتاب المقدس
أبريل 12, 2021الأستاذ الدكتور سليم منير – سفر رؤيا يوحنا وفيروس كورونا
فبراير 10, 2022
بقلم يوسف كمال الخوري محاضر في دراسات الكتاب المقدس وعلم الإرساليات- كلية بيت لحم للكتاب المقدس
* إسحق، منذر. أرض الميعاد: قراءة لاهوتية ضمن السياق الفلسطيني. بيت لحم: كلية بيت للكتاب المقدس، 2021.
نادراً ما نقرأ كتاباً لاهوتياً يتمتع بأسس رزينة في الكتاب المقدس وينقل فكراً فريداً ومتنوراً. تفتقر مكتباتنا العربية والفلسطينية لتلك النوعية من الكتب، بشكل خاص باللغة العربية وتستهدف القارئ العربي المسيحي. على الرغم أن اللاهوتيين الفلسطينيون قد كتبوا العديد من المؤلفات التي توضح تاريخ الوجود المسيحي الفلسطيني وتقدم رؤية لاهوتية للقضية الفلسطينية وموقفاً رصيناً من الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن تلك الكتابات غالباً ما كانت باللغة الإنجليزية وتستهدف القارئ الغربي. يطل علينا القس الدكتور منذر إسحق، العميد الأكاديمي لكلية بيت لحم للكتاب المقدس وراعي كنيسة الميلاد اللوثرية في كتابٍ مهمٍ للغاية يناقش خلاله موضوعاً ساخناً لاهوتياً وسياسياً وهو “أرض الميعاد: قراءة لاهوتية ضمن السياق الفلسطيني.” يقدم إسحق في إثنى عشر فصلاً لاهوتاً كتابياً لمفهوم الأرض الميعاد في السياق الفلسطيني. يتضح أن الكتاب قسم لجزئين: الأول، في الفصول العشر الأولى يسرد لاهوتاً كتابياً لمفاهيم الأرض، الوعد، النسل المختار، الهيكل وصهيون والقدس. بينما في الجزء الثاني، الفصول الحادي عشر والثاني عشر، يوجه نقاشه مباشرة للصهيونية المسيحية وفهماً لاهوتياً وكنسياً فلسطينياً لقضية أرض الميعاد.
يتسم أسلوب إسحق ولغته بالبساطة والوضوح، كما يبدو جلياً أن الكتاب قد وضع لكي يكون سهل القراءة لجمهور واسع من القراء، تحاشى فيه قدر الإمكان المصطلحات اللاهوتية المعقدة. هدف الكتاب ليس اكاديمياً لاهوتياً خالصاً، بل إنه محاولة لإخراج المسيحي الفلسطيني والعربي من أزمة الايمان نتيجة خبرتهم مع الاستعمار وسوء تفسير واستخدام الكتاب المقدس (ص ١٠). نجح الكتاب في تجاوز العديد من العقبات اللاهوتية والفكرية التي تشكل تحدياً للاهوتيين العرب وأهمها عقبة المصادر والمراجع وذلك لندرة الكتابات اللاهوتية العربية. في أغلب الحال، يستند اللاهوتيين العرب على لاهوتيين ومدراس لاهوتية غربية لتدعيم آرائهم اللاهوتية، إلا أن إسحق استند على مفكرين ولاهوتيين فلسطينيين وعرب لامعين أمثال البطريرك صباح، يوحنا كتناشو، متري الراهب، عيسى دياب ورياض قسيس، وغيرهم. لم يكتفي بذلك، بل قدم فكراً أصيلاً وشمولياً يتجاوز فيه هفوات بعض المدارس اللاهوتية والأيديولوجيات المسيحية الغربية التي تزعم صحة أسلوب تفسيرها لنصوص الكتاب المقدس وبذلك تدعم الاحتلال الإسرائيلي لأرض فلسطين التاريخية، بشكل خاص متذرعة بمفاهيم أرض الميعاد والوعد والاختيار. فيما يلي قراءة لبعض الأفكار التي يطرحها الكاتب في ثلاث نقاط رئيسية.
أولاً، يؤكد إسحق على وحدانية الإعلان الإلهي في الكتاب المقدس كقصة واحدة، وعلى إرسالية الله الواحدة نحو افتداء العالم وتجديده. بذلك، يرفض وينتقد بمنهجية كتابية وعلمية وافية تلك الازدواجية التي يتمسك بها بعض اللاهوتيين الغربيين تجاه الكتاب المقدس، بعهدية القديم والجديد، وتعاملات الله مع الشعب العبراني (أي إسرائيل الكتاب المقدس)، والكنيسة. التزم إسحق وبشكل كبير على منهجية اللاهوت الكتابي والتي لا تجزأ الكتاب المقدس، بل ترى فيه وحدة شاملة من سفر التكوين حتى رؤيا يوحنا.
ثانياً، يناقش إسحق ثلاث مفاهيم أساسية مترابطة بما لا يدع مجالاً للفصل، وهم: الأرض والعهد والاختيار. يؤكد مستنداً على فهماً وتفسيراً دقيقاً للنصوص الكتابية على البعد الكوني لتلك المفاهيم. فالأرض، أي أرض الميعاد، لا يقصد بها مكاناً جغرافياً معيناً قد وهبه الله لشعب معين، إنما كل الأرض لله وحده وقد أوكلها للإنسان ليرعاها لا ليملكها. كما يوضح أن دراستنا للاهوت الأرض لا يجب أن تبدأ من الوعد الإبراهيمي (تكوين 12)، بل من الخلق والإصحاحات الأولى لسفر التكوين (ص 59). يربط إسحق بتفنن بين أرض الميعاد وملكوت الله. إن كان الله هو مالك الأرض، فإن ملكوته يكون على الأرض أيضاً (ص 73). ما يستمد من الكاتب بأن لاهوت الارض هو ليس لاهوتاً متخصصا بأرض معينة بل هو لاهوت كل الأرض، بل ولاهوت ملكوت الله، فالله وحده مالك الأرض. يقترح إسحق مصطلحاً بديلاً وغاية في الدقة والجمال للأرض الميعاد وهو “الكون الموعود” (ص 75). أيضاً فيما يختص بالعهد، فهو يؤكد أن العهد يشترط القداسة. حيث أن العهد ليس حكماً اعتباطياً غير مشروط أو غير محدود الأجل، بل مرتبط بمسؤولية الإنسان على العيش بقداسة مع الله والأخر في الإنسانية. أما بالنسبة للاختيار، يوضح إسحق بدقة أن الاختيار والنسل المقدس ليس مقتصراً على صلة الدم او الانتماء العائلي او العرقي لإبراهيم بل على الايمان بإله إبراهيم (ص ٤٥). إن الاختيار متجذر بالمسؤولية والإرسالية. كما يقول إسحق أن “الاختيار والإرسالية توأمان” (ص 85). فالاختيار ليس عشوائيا، إنما هادفاً، ينطلق فيه الله بشراكة مع الانسان في ارسالية لتحرير الكون من وطأة الخطية. إنه لوصف وفهم دقيقً لمقاصد الله للإنسان والكون. من هنا يمكن اختصار فكرة الكاتب كما يلي: أن الاختيار هو مسؤولية إرسالية لاسترداد الكون لمالكه الأصلي، وهو الله من خلال المسيح.
ثالثاً، قدم إسحق تفسيراً لنبوات العهد القديم فيما يخص الأرض والقدس والهيكل مرتكزاً على المسيح والعهد الجديد. فالمسيح هو الاساس والمركز في الكتاب المقدس. بينما يقرأ بعض المفسرين الغربيين والعرب الكتاب المقدس ونبوات العهد القديم بشكل حرفي وكأن المسيح لم يحققها، أبدع الكاتب في تقديم شرحاً وافياً ودليلاً حازماً لتفسير الكتاب المقدس والرسل لنبوات العهد القديم من خلال منظار مجيء المسيح الاول وما بعد القيامة (113-150). فأرض الميعاد هي كل الأرض في المسيح. والعهود التي أعطيت لإبراهيم قد تحققت بالكامل لنسل إبراهيم الأوحد وهو المسيح، وأن الكنيسة وكل المؤمنين في المسيح يرثون معه وعود الله في الأرض والبركة. في الفصول الأخيرة، يقدم الكاتب تعريفاً وتوضيحاً مسبطاً ووافياً للصهيونية المسيحية. يذكر سبع أسئلة رئيسية ويقدم حجج كتابية على ادعاءات الصهاينة المسيحيين. ويختتم كتابه بتقديم قراءات فلسطينية لمفهوم أرض الميعاد التي ترفض سوء تفسير الكتاب المقدس وتأويله لخدمة مشروع استعماري وظلم الشعب الفلسطيني. مقتبساً من وثيقة كايروس فلسطين، صرخة رجاء، مؤكداً على الإيمان بصلاح وعدل الله.
على رغم من شمولية ودقة إسحق في مناقشة طرحه، إلا أنه لا يخلو من بعض الهفوات. على سبيل المثال، في الفصل السابع (٩٩-١١٢) ينهمر الكاتب على توضيح الالتباس حول هوية النبي وتعريف النبوات، كما أنه يوضح سوء تفسيرها الحرفي لتنسجم مع الايديولوجية الصهيونية المسيحية. إلا انه لا يلمح لحقيقة ان تلك النبوات التي تتحدث عن العودة والبناء قد تحققت بالفعل مع عودة العبرانيين المسببين الى فلسطين في القرن الخامس قبل الميلاد. كما يتجنب الكاتب استخدام مصطلح دولة الاحتلال الاسرائيلي ككيان استعماري ويكتفي بالإشارة لها كدولة اسرائيل المعاصرة مما يخلق نوعاً من اللبس حول كونها استمرارية لمملكة اسرائيل القديمة، إلا أنه يستخدم مصطلح الاحتلال لاحقاً في نقاشه لقضية الصهيونية المسيحية في الفصل الحادي عشر. كان من المستحسن لو استمر في استخدام مصطلح احتلال أو كيان استعماري لتحاشى أي التباس من جهة أي قارئ.
ختاماً، إن التفسير والمبدأ اللاهوتي اللذان تمسك بهما إسحق بحق هما وحدة الكتاب المقدس ومركزية المسيح في التفسير. كيف لأي مفسر مسيحي أن يستثنى أو يتجاهل مركزية المسيح في تحقيق نبوات العهد القديم وكونه المالك الأصلي للكون! ما احوج مكتباتنا العربية وكنائسنا وجامعاتنا ومعاهدنا اللاهوتية لمثل هذا الغنى والزخم الفكري واللاهوتي. إن هذا الكتاب هو لاهوتي كتابي بامتياز، إلا إنه ايضاً ارسالي متجذر في ارسالية الله والكنيسة لكل العالم. أؤمن أن هذا الكتاب مهماً لدراسة علم اللاهوت الكتابي وعلم الارساليات. كما أنه يصالح الإنسان المسيحي الفلسطيني والعربي مع إيمانه المسيحي ومع الكتاب المقدس بعد ما تم استغلاله من الغرب والكيان الإسرائيلي الاستعماري لظلم الشعب الفلسطيني.