أ. جبرائيل حنا – الشر لغز وحقيقة
فبراير 10, 2022أ. علاء قصاصفة – الألم في العالم القديم
فبراير 15, 2022كليّة بيت لحم للكتاب المقدس
الإيمان العامل في الأزمات
فهم الأزمة بعيون مسيحية
ورقة بحثية مُقدّمة للمؤتمر الأكاديمي السنوي الأول
بهجت خضر
خريف 2021 – 2022
الأزمات والصراعات في عالمنا ليست وليدة الساعة، فلطالما سمعنا واختبرنا ظروفًا مُظلمة حالكة. أحداثَ قتلٍ وموتٍ عشوائي والمفاجئ، صدمات من عجز وجود حلٍّ رادع للظلم مُترافق مع تقصير في الإنصاف. ارتفاع صرخات الشجب الاستنكار وكأنها يوميات العصر تكتبها شعوبٌ أتعبها الألم وحيّرتها ظلمة المجهول. ظروفٌ زرعت فينا تصميم للبحث عن طُرق تساعدنا في مواجهة الأحداث المؤلمة والصادمة. أصبحنا نركض لتعلُّم كيفية مقاومة القلق والتوتّر والشعور بعدم الأمان الذي أرهق طفولتنا ورافقنا مرحلة النضوج بصورة مُزمنة. كل هذه الظروفٌ طرحت الكثير من الأسئلة الوجودية والفلسفية ووضعت الإيمان تحت المجهر. فأين الله من كل ذلك؟ هل هو فعلًا موجود؟ لماذا الله صامت حتّى الآن؟ هل ما يجري من شرور وآلام هو من صُنع الله وموافقته؟ هل سيأتي وقت ينتهي فيه الألم والظلم وتختفي المُعاناة؟ وأسئلة أخرى كثيرة تطرحها فئات وأجيال مجتمعية مختلفة من الشباب الجامعي حتّى الإنسان العامل، ومن المؤمن البار حتّى المُلحد[1].
نتيجةً لغموض هذه الظروف وقساوتها، فإننا نجد الكثير من الأشخاص، سواء في داخلهم أو في العلن، ليس لديهم مشاكل مع أخوتهم في الإنسانية بقدر ما لديهم أزمة شخصية مع الله. فكثيرون يشعرون بأنّ اختبارهم لصمت الله في الأزمات مازال قائمًا، والمسألة باتت تستلزم وقفةِ حوارٍ مع الله[2].
إنّ أسباب مواجهة الإنسان للألم في حياته كثيرة، والكتاب المقدس ليس بصدد تقديم إيضاحات فلسفية أو نفسية لأسباب الألم. ولا يُمكن حصر الألم وأسبابه وطُرق فهمه من الناحية الكتابية في قالبٍ واحد. فهناك آلامًا مختلفة اختبرتها شخصيات كتابية في بيئات وظروف مختلفة، ولم يُستثنى منها حتّى الأنبياء الأبرار الذين كان لبعضهم وقفات احتجاج شخصية لله على صمته في ضيقاتهم. ومن أمثلة ذلك نقرأ عن أيوب، ذلك الإنسان الذي شهد له الكتاب المقدّس أنه كان بارًا، لكن سمح الله بأن يختبر آلامًا شديدة وأوقات عصيبة جسديًا ونفسيًا، فخسر كل ممتلكاته وعائلته وثروته، وتحمّل السّخرية لدرجة أنّ قلبه قارب على الانفجار من هول المصائب رغم قناعته بأنه لم يخطئ. أما إرمياء، فقد وُصِفَ بالنبي “الباكي” من شدّة المآسي التي لحقت بشعبهِ. فكتب “مراثي إرمياء ” التي تُعبّر عن حالته. ونأخذ حبقوق كمثال ثالث، فقد عاش خيبة أمل كبيرة، فإذا نظر إلى الحياة رآها قاسيةً قساوةَ البرد القارص، وقد تزاوج فيها الظُلم مع العنف وإذا نظر إلى السّماء وجدها مُظلمةً ولا ُتُعطي حلولًا ولا رجاء[3]. وقد ناجى حبقوق الله قائلًا: حتّى متى يا رب أدعو وأنت لا تسمع؟ أصرخ لك من الظُلم وأنت لا تُخلّص؟ (حبقوق 1: 2-3).
وعند هذه النقطة يدفعنا الأمر لطرح بعض الأسئلة: هل يمكننا أن نعتقد في الله بأنّ يكون مصدر للشر أو يوافق عليه ويتلذذ به؟ إذا كانت قناعتنا وإيماننا بصلاح الله المُطلق، فكيف إذا نُصالح بين صلاحهُ وحدوث الشر وتألّم الأبرار؟ وما هي أهداف الله من تعريض البار للمِحن؟
قبل محاولة التفكير في هذه الأسئلة، علينا التفكير في كلمة “الألم” ذاتها ومعناها! يُشير بيتر هونرمان Peter Hünermann إلى أنّ كلمة “الألم” في اليونانية القديمة pas’-kho/πασχο تحمل معانٍ مثل (حَمَل، تحمّل أمرًا سيئًا، لكن أيضًا لها معانٍ أخرى إيجابية مثل حَصَلَ على أمرٍ ما أو اختبر أمرًا صالحًا).[4] كما يترافق هذا المعنى في اللغة الألمانية أيضًا. فهم المعنى يُدخِلنا في مقدّمة لفهم طبيعة الله وفهم تعاملاته معنا، فليس بالضرورة أن تعكس الآلام والأزمات في حياتنا نتائج سلبية فقط، فقد تنفجر منها أمورًا صالحة. وهذا المفهوم يساعدنا أيضًا في فهم الإيمان المسيحي الذي يُصالح بين حقيقة صلاح الله ومحبته وحتمية ألم الإنسان. فالكتاب المقدس يؤكّد بشكل قاطع أنّ طبيعة الله مُنزّهة عن جميع الشرور، فيعقوب الرسول يشهد بذلك في الأعداد الأولى لرسالته، فيكتب: “لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا” (يعقوب 1: 13). ولا يُمكن أن يكون الله هو بذاته مصدرًا لألم الإنسان أو يتلذذ بعذابه. وإذا عُدنا لبدايات الكتاب المقدس، عند الخلق، نرى أنّ الله خلق الخليقة على صورته، وقد عبّر الله عن رضاه الكامل بخليقته ونلمس ذلك من وصفه لها بأنّها “حسنة جدًا”، أي أنّ خليقتَهُ في تناغُمٍ مع صلاح الله نفسه. لكنّ مقت الشيطان لهذا التناغم جعله يُسقِط الإنسان في فخ الخطيئة، فأصبحت طريق الإنسان محفوفة بالآلام الناجمة في أحد أسبابها الرئيسية عن تصرّفاته وفكره المُناهض لإرادة الله ومُعارضة مشيئته.
إذًا يُمكننا بنظرة كتابية فاحصة أن نستنتج أنّ:
أولًا: لا يُمكننا أن ننظر إلى الآلام التي تُصيبنا على أنها عقاب من الله للإنسان، ولا يُمكننا أن نفهم الآلام على أنها قضاء الله وقدرهُ لنا بسبب تصرّفات كان يجب تعديلها او كان يجب القيام بها.
ثانيًا: يُفهم سبب حتمية الألم الإنساني بشكله الأساسي على أنه ناجم عن “طبيعة عالم ساقط” بادر الله لاسترداده. فكل الخليقة ساقطة وتتألّم، وهذا ما أكّدهُ أيضًا بولس الرسول في رسالتهِ إلى أهل رومية، فكتب: ” فَإِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الْخَلِيقَةِ تَئِنُّ وَتَتَمَخَّضُ مَعًا إِلَى الآنَ (رومية8:22).
فإذا كُنّا نؤمن بصلاح الله ونحتاج إلى مصالحة ذلك مع حدوث الألم. فمن الأهمية هنا أن نُفرّق بين آلامًا نابعة من إرادة الله وأخرى ناجمة من سماح الله بها.[5] إنّ الآلام التي يسمح بها الله، هي قنوات لنفهم تدابير الله نحونا – كيف يُمكننا أن نفهمه ونفهم أهدافه منّا وخطّته لنا. لذلك ينظر الإيمان المسيحي للمِحن والآلام كقنوات تُساهم في عودة انفتاح الإنسان على الله وتغييره جذريًا وتنويره ليصل إلى عُمق معرفة الله ومحبته.[6] ونرى في مثال فرعون الذي رفض تعاملات الله ورسالة موسى النبي، فكان قرار الله أن يتركهُ لقساوةِ قلبهِ (خروج 7: 3)، فقال: “وَلكِنِّي أُقَسِّي قَلْبَ فِرْعَوْنَ وَأُكَثِّرُ آيَاتِي وَعَجَائِبِي فِي أَرْضِ مِصْرَ” (خروج 7: 3)، فهل فعلًا أراد الله تشديد الشر على موسى النبي، بالتأكيد لا لكن هنا نرى السّماح بهذه المحنة للوصول للنتيجة، فالقساوة ستُنتج عجائب وتعظيمًا للرب وراحةً وانفراجَ بركات لشعب موسى. لننظر أيضًا في (خروج 12) شعب العبرانيين يخرج من العبودية في ما يُسمّى بـ”الخروج” في صحراء سيناء، ويُشير د. هادي غنطوس بأنّ الشعب لم يحصل وقتها على تحرير فقط، فقد كانت رحلة شاقّة مؤلمة لكنّ الله رافقهم فيها ليحصلوا على بركات لم يتوقّعوها، بل وأعظم. ما يريد الله منّا أن نعلمه. إنّ طرق الله ليست كطرقنا وأفكاره ليست كأفكارنا (إشعياء 55: 8)، فما يراهُ الإنسان عذابًا وظُلمًا وألمًا، تراهُ إرادة الله تشكيلًا وتحصينًا لكيان هذا الإنسان يجعل منه كيانًا يفتقد للمصالحة مع مُبادرة الحب الإلهية. فالله بسماحه بالألم في حياة الإنسان يهدف لتغييرنا بصورة فريدة، لتهيئتنا لأمورٍ جليلة عُظمى لا تُقاس باعتباراتنا، فنُدركه عندها بشكل مُختلف[7] وهذا ما أكّده بولس الرسول حينما قال: “مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ” (1 كورنثوس 2: 9).
مشكلتنا في الحياة أننا نعتقد بأنها حياة أصلها يخلو من الألم والمتاعب. فنضع الله تحت المُسائلة عند تعرّضنا للضيقات. وهذا يعكس درجة برّنا الذاتي وجهلنا في فهم تدابير الله والاتكال عليه، وذلك لأننا في الحياة نأتي إلى الله مُعتمدين على طريقتنا البشرية، فنبحث عنه ونطلبه، وكل ما نُفكّر به هو تحقيق مصالحنا بحسب مشيئتنا، فلا نُعطي اهتمام لمشيئتهِ ولا نتواصل معه بالشكل الصحيح كما هو يريد. لذلك، من الضروري لفهم الأزمات في حياتنا، ألّا نخلط بين إرادتنا وإرادة الله، فلنترك الامر دائمًا بحسب إرادتهِ. لذلك من المهم أن ننتبه للأمور التالية حول فهم الأزمات بعيون إيمانية مسيحية:
إولًا: إنّ الله يعمل معنا وسط الأزمات ليمنحنا ذهن مُتجدّد يقودنا إلى إدراك الله بصورة مُختلفة.
إنّ أولى خطوات فهم أزماتنا بعيون مسيحية تكمن في امتلاكنا ذهن إيماني مُستنير مُتجدّد مركزه الله يجعلنا قادرين أن نراهُ ونرى تعاملاته معنا في الأزمة. للأسف مُعظمنا لا يستطيعون مُعاينة الله وحضوره معهم في هذه الظروف بسبب انعطاب الذهن والقلب. يكتب بولس الرسول في رسالته إلى اهل رومية: “وَكَمَا لَمْ يَسْتَحْسِنُوا أَنْ يُبْقُوا اللهَ فِي مَعْرِفَتِهِمْ، أَسْلَمَهُمُ اللهُ إِلَى ذِهْنٍ مَرْفُوضٍ لِيَفْعَلُوا مَا لاَ يَلِيقُ.” لقد أخرج الإنسان الله من دائرة معرفته وسيادته، فكانت هذه بداية طُرق آلامه ومعناته وبات لديه ذهنٌ معطوب، فاعتقد الإنسان أنّ لديه ما يكفي لاعتماده على فكرهُ الخاص فلا يحتاج إلى الله.
كتب نيتشه عام 1882م كتاب “الابتهاج المَرِح في العلم” واصفًا بدايةً عصر التنوير في أوروبا وازدهار العلم فيها، وقد علّق على هذا العصر “بأنّ الله مات”. فعلّق على استبعاد الله وقال: ماذا فعلنا؟ “لقد أصبحنا نهيمُ في فراغ لا معالمَ له”.[8] نعم، لقد أخرج الإنسان الله من دائرة معرفته وخرج عن الاحتكام لسيادته، فكانت هذه بداية آلامه ومعاناته بأن بات لديه ذهن معطوب.
يكتب اللاهوتي البريطاني سي اس لويس C. S. Lewis عبارة في غاية الأهمية في هذه النقطة فيقول: إنّ عبارة “لدينا كلُّ ما نريد” الخارجة من الإنسان هي عبارة مزعجة إن لم يكن الله ضمن هذا الـ “الكل”.[9] المُفكّر الفيلسوف بليز باسكال رأى بأنّ في حياتنا هناك فرق بين مُعتقدات الفكر ومُعتقدات القلب وعلينا أن نميّز بين أهمية كليهما. فمُعتقدات القلب هي في الحقيقة التي تنطبع في قلوبنا وتتعمّق في أذهاننا وبالتالي هي نفسها تحكم سلوكياتنا وتُسيّر التزاماتنا وتطلق قراراتنا ومنها ينبع سلامنا عن إيمان وقناعة. فمُعتقدات الفكر غالبًا ما تبقى أمور نظرية لا يلتزم الإنسان بصورة مستمرة في العيش من أجلها. فالإيمان يكون عاملًا وفاعلًا عندما يكون الله مركزه القلب ويكون هو المسيطر على الفكر أيضًا.[10]
من يتأمل في مشكلة شعب إسرائيل في الكتاب المقدس في عهدهم وسلوكهم مع الله سيُدرك أنها بدأت في عدم قدرتهم على امتلاك هذا الذهن المُتجدّد مما قادهم إلى عدم المقدرة على الالتزام بالعهد في قلوبهم وعدم القدرة على التغيير والنمو في معرفة الله وادراك تعاملاته، فكانت النتيجة مواجهتهم لدينونة السبي. إنّ ما رآه الشعب “في السّبي” ظُلمًا وبُعدًا وتشتيتًا، قصدت به العناية الإلهية بابًا لتغيير فكرهم وقلبهم ومسارهم الحياتي والسلوكي مع الله.[11] إنّ السبي كنوع من المٍحن كان بمثابة جرس إنذار او نقطة استفاقة لهم، حتّى ولو استغرقت وقتًا طويلًا، فتدابير الله تُعدُّ هذه الاحداث لتكون دروسًا لأجيال قادمة مُتعاقبة. أراد الله لهذا الشعب أن يدخل في أزمات مُتكرّرة كعملية تنقية من شوائب السلوكيات الوثنية والعادات والعبادات التي كسرت العهد معه. نحن اليوم كثيرًا ما نختبر نوعًا أو أنواعًا من السبي، فنشعر أنَّ الله بعيدًا عنًا في محنتنا وعُمق آلامنا، لكنّ الله ومن خلال سماحه لنا بمواجهة ظروفٍ كهذه إنّما ما يفعله ليس تركنا واستغنائه عنّا، بل في الحقيقة يضعنا في مواجهات سوداء في ظروفها تكون بمثابة لفت نظر لإعادة تقييم حياتنا الروحية والأخلاقية وما يستحق في قلوبنا ونفوسنا من تنقية.
ثانيًا: الله يعلّمنا من خلال الأزمات أن نؤمن بوجوده، بل وبحضوره، وبسلطانه على الكون.
إنّ الإيمان بوجود خالق عظيم مهيب له سلطان كامل على الكون وهو ضابط الكل وبيده شأننا في الكبيرة والصغيرة هو إيمان عامل وفاعل ضروري لسلامنا الداخلي وللحياة معه. فليس هناك ما يساندنا في آلامنا ويحفظنا في الضّيق ويعطينا تعزية في مواقف صعب احتمالها غير الله العامل معنا. إشعياء النبي يقول: لِمَاذَا تَقُولُ يَا يَعْقُوبُ وَتَتَكَلَّمُ يَا إِسْرَائِيلُ: قَدِ اخْتَفَتْ طَرِيقِي عَنِ الرَّبِّ وَفَاتَ حَقِّي إِلهِي؟ أَمَا عَرَفْتَ أَمْ لَمْ تَسْمَعْ؟ إِلهُ الدَّهْرِ الرَّبُّ خَالِقُ أَطْرَافِ الأَرْضِ لاَ يَكِلُّ وَلاَ يَعْيَا. لَيْسَ عَنْ فَهْمِهِ فَحْصٌ. يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّرًا. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ. (إشعياء 40: 27-31).
ثالثُا: الله يسمح بالأزمات لنُدرك حضورهُ معنا وسط الأزمة ونُدرك مشاركتهُ لأوجاعنا.
من الخطأ الاعتقاد بأنّ الله غائب وصامت عن آلامنا، بل بالعكس، فالله يعرف آلامنا ويفهمها ويشعر بها ويسير معنا فيها ليُقوّينا. إشعياء النبي يوضّح هذه النقطة فيكتب عن الله: “فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ. بِمَحَبَّتِهِ وَرَأْفَتِهِ هُوَ فَكَّهُمْ وَرَفَعَهُمْ وَحَمَلَهُمْ كُلَّ الأَيَّامِ الْقَدِيمَةِ” (إشعياء 63: 9).
ليس فقط الله يشعر بآلامنا ويُرفقنا فيها، لكنّه أيضًا لا يتوقّع منًا أن نتخطّاها بسرور وفرح، لذلك فهو يسمح لنا بحريّة أن نتكلّم معه خلال أزماتنا بإطلاق الصرخات والشّك والعِتاب.[12] اللاهوتي البريطاني سي إس لويس قال مقولته الشهيرة: “إنّ الله يهمس في أفراحنا ويتكلّم في ضمائرنا، لكنه يصرخ في آلامنا”.[13] فنحن نتعامل مع إله حي مُنفتح على إنسانيّتنا وتفكيرنا ومشاعرنا، ويريد منّا أن نشاركهُ كل ما يجول في خاطرنا ونفكّر به حتّى ولو اعتبرنا تصرفنا قلة إيمان، فالله يسمح بها لتقوية الإيمان وتنقية الإنسان ومنح بركات أعظم من الألم الذي اختبره.[14]
رابعًا: الله يسمح بالأزمات أن تُصيبنا ليُعلّمنا أن ندنو منه بصبرٍ وصمت.
كثيرةٌ هي انشغالات العالم وضوضاءه التي تُضعِف سماع صوت الله في داخلنا،[15] فترانا في آلامنا وخوفنا في حالة استعجال وتوتّر لإصدار التكهّنات والقرارات مُتكلين على تدابيرنا بدل تسليم الامر لحكمة الله. وهذا بالتأكيد يُغلق علينا أبواب النّعمة. عندما رفع حبقوق النبي شكواهُ وحيرته ومسائلتهُ لله على المصائب الكثيرة وفقدان الرجاء، تركه الله دون إجابات ليُعلّمه درسًا في ضرورة السّماع لما يريد الله أن يقول حينها قرر حبقوق أن يدنو من الله بصمت، فكتب حبقوق: “عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ، وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ، وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي، وَمَاذَا أُجِيبُ عَنْ شَكْوَايَ” (حبقوق 2: 1). وفي الأعداد التي تلي وقفة الصّمت وصل حبقوق إلى نتيجة رائعة فقال: “فَأَجَابَنِي الرَّبُّ وَقَالَ: اكْتُبِ الرُّؤْيَا وَانْقُشْهَا عَلَى الأَلْوَاحِ لِكَيْ يَرْكُضَ قَارِئُهَا، أَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ، وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ. إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ. هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا”. حبقوق يُعلّمنا أنه في الألم والمِحن نتعلّم مهارة فهم الزمن في فكر الله.[16] فأزمنتنا تختلف عن أزمنته، لذلك يجب التسليم بأنّه حتمًا سيتعامل مع الموقف ولو بعد حين.
لذلك فالإيمان المسيحي الفاعل يحتّم علينا أن نقترب من الله بذهن ايماني سليم متجدّد مستنير مركزه الله وحضوره الفاعل حتّى في وسط أكثر الظروف يأسًا وصدمة. هذا الإيمان يُشجّعنا على التعامل مع الاحداث بمهارة الصبر وقناعة التسليم الكامل لإرادة الله.[17] نعم، قد تكون بعض المواقف صعبة للغاية، لكن بقدر الصعوبة ينبغي ان يتضاعف الإيمان وإلّا لن تنفع مساعينا في احتمال المواقف والنجاة منها بدون الثقة الكاملة والتسليم الراسخ بأنّ الله حاضر معنا ولأجلنا. أمر كهذا، بالتأكيد يتطلّب منّا الكثير من الصبر الواثق. أن نصبر يعني أن ننتظر بهدوء وسكون في حضوره. أن ندنو منه بصمت ونحاول أن نسمعه يُخاطبنا. الصّمت في الآلام يُعلّمنا مهارة النظر إلى ما وراء الأزمة، فالله لديه دائمًا ما يقوله لنا من وعود وتعزية وحلول.
خامسًا: الله يسمح بالأزمات لتكون قنوات لتعميق فضيلة التوبة.
الآلام والضيقات تُعزّز فينا مبدأ التوبة بل التوبة العميقة التي كثيرًا ما تأتي منّا مُتأخّرة بعد مواجهتنا لاختبارات مُرعبة. يقول سي اس لويس C. S. Lewis نقلًا عن قول أحد أصدقاءه: نحن نتعامل مع الله كما لو كنّا طيارين ننظر إلى وظلّة (الباراشوت)، مطمئنين أنها موجودة للأمان لكن نتمنّى أن لا نستخدمها[18]، تفكير كهذا يؤلم جدًا قلب الله. يُعبّر نيومان Newman في وصفه للجنس البشري، فيقول: “إننا متمرّدون، لابدّ لنا أن نُلقي بأسلحتنا ونستسلم. ويُجيب سي اس لويس C. S. Lewis على سؤال: “لماذا يجب أن يكون علاجنا مؤلمًا؟”، فيتحدّث عن مدى تعنّت الإنسان وتمرّده وحاجتهُ للتوبة، فيقول: “أننا علينا أن نُعيد لله إرادتهُ التي سلبناها منه بافتراض أنها مُلكنا، وتصرّفنا وتحكّمنا بأخلاقيّاتنا وروحانيّاتنا تجاه الله والإنسان بمنطقنا البشري، فسلب الإرادة، هذا في حد ذاته هو ألمٌ شديد”.[19] لهذا، فمن أسباب عدم شعور الإنسان بحضور الله وعمله في الأزمات لأنّ الإنسان فعلًا بحاجة شديدة للتوبة.
سادسًا: إنّ سماح الله بالأزمات هو وسيلة ضرورية لنتعلّم احتياجنا للصلاة من القلب.
تساعدنا الآلام والأزمات أن نحيا حياة الصلاة. بالصلاة نتعلّم حدود إرادتنا وأهميّة تمييزها عن إرادة الله. فكثيرًا ما نُخطئ بالخلط بين الإرادتين.[20] الصلاة تحتاج منّا لوقت مُخصص بشكل مُسبق مع الله لنكون جاهزين وقادرين على المواجهة. بدون الجاهزية المُسبقة لن نمتلك التأهيل والكفاءة للتغلّب على الظروف بصعوبتها أو بشرورها. لقد عبّر جورج وليامز عن أهمية الجاهزية الروحية المُسبقة فقال: لا يمكن أن نستمد قوّتنا الروحية من الآخرين، لذا علينا تخزينها بشكل مُسبق”.[21]
بالإضافة لمعرفتنا حدود إرادتنا، فالصلاة هي مفتاح نكتشف من خلاله امكانياتنا الروحية والأخلاقية. فنحن بالتأكيد لا نملك من التواضع والمحبة والاهتمام والقوة ما يمكننا من التعامل بحكمة وقوة مع الله والناس في المِحّن. يرى أجيث فرناندو أنّ حوارًا بسيط يوميًا مع يسوع سيكون كافيًا لتجهيز الجسد والعقل والروح لمواجهة ما سيأتي مهما كان.[22] لذلك نفهم أهمية نصيحة الوحي لنا في (لوقا 22: 40): “صَلُّوا لِكَيْ لاَ تَدْخُلُوا فِي تَجْرِبَةٍ”. فالصلاة تحمل لنا تطمينات إلهية عميقة خلال الأزمات الشديدة، فالله يُقدّم للإنسان ما يبحث عنه ويُطمئن نفسه بالتحديد. فجميع وعود الله القائلة “لا تخف” تحمل التزامًا إلهيًا صادقًا يُرافقنا بشكل يومي. سامي غبريال يصف عبارة “لا تخف” قائلًا: “إنهما كلمتان إلهيّتان علاجيّتان” كثيرًا ما اختَبَرهما آبائنا في الإيمان ولمسوا قوة وعُمق هذا الوعد[23]. هذا الوعد الهام الذي يحمل الطمأنينة والسلطان الباعثان للرجاء ممتد عبر الكتاب المقدس بأكمله، فهو يبدأ مع سفر التكوين وينتهي في سفر الرؤيا. فقد قيل لإبراهيم “لا تخف… فأنا ترسٌ لك” (تكوين 15: 1)، ولموسى “لا تخف منه لأني قد دفعته إلى يديك” (عدد 21: 34)، وليشوع “لا تخف ولا ترتبك” (8: 1)، وقد صلّى داؤد قائلًا “لا أخافُ شرًا لأنّك أنت معي” (مزمور 23: 4)، و يختمها في سفر الرؤيا قائلًا: “لا تخف، أنا هو الأول والآخر” (الرؤيا 1: 17-18).
سابعًا: سماح الله بالأزمات لتنمية فضيلة التواضع وتُنشأ فينا مُباردة الخدمة المُضحيّة.
في الكثير من الأحيان، ومع تكرار الأزمات والمواقف المؤلمة، نرى بأنّ الله يريدنا في الحقيقة أن نتعلّم كيف نتواضع. فلربّما كبرياءنا يمنع سماعنا لصوته أو إدراك مشيئته. فالتواضع هام جدًا لحياة سليمة مع الله واتجاه الآخرين. علينا ان نتواضع امامه، فهو سبقنا في تواضعهِ في صورةِ تجسّدِ ابنهِ لُيُعلّمنا مثالهُ. فالتواضع هو من الأخلاقيّات والروحانيات السّامية التي تضعنا في قناعة بأنه مثلما الله وُجِدَ لأجلنا في الألم علينا نحن الالتزام بأن نحيا لأجله، بل ولأجل الآخرين لأننا هكذا كما لو فعلنا بهِ. إنّ السلوك لأجل الله بتواضع يوضّح هدف حياتنا، فنأخذ بصيرة في إرادة الله لنا حتّى في ظل الأزمات. فلا توجد أهداف سامية بلا آلام ولا حدوث آلام بلا أهدف مرجوّة.[24]
اللآلام هي وسائل مُناهضة لكبريائنا وأنانيتنا، وتجعلنا أكثر حساسية تجاه الغير والتفكير بهم والتواجد لأجلهم في أوقات مآسيهم، بدل من التركيز على الذات ونجاتها. فالاهتمام في النفس بصورة أنانية هو سر متاعبها.[25] ومن هنا نُدرك بأنّ الأزمات هي أبواب رئيسية لنفهم معنى الخدمة المُضحية. وإذا خرجنا من إطار الفرد لأهمية عمل جماعة المؤمنين والكنيسة، نستطيع أن ننظر للأزمات المختلفة كعامل قوي يدفع الكنيسة للاستفاقة وتقييم صوتها ودورها النبوي في المجتمعات. يقول كريستوفر رايت Christopher J. H. Wright “إنّ الكنيسة الصحيحة، هي الكنيسة الخادمة”.[26] فمن الهام أن تُشكّل الأزمات والضيقات مواقف مُنبهّة للكنيسة اليوم تذكيرًا لها بأنها أسست على الصخرة المسيح كسفيرة في هذا العالم مُنخرطة بتفعيل دعوة انجيلها الاجتماعي ودورها النبوي خصوصًا في وسط أسوء الظروف وأكثرها ظلامّا. فقمّة ازدهار الإنجيل تأتي حينما يُطلب نشر الرجاء وتفعيل حياة الرّحمة والتعزية التي تصل بها الكنيسة للمُتألمين هام للغاية. فالكنيسة التي تأخذ صفة “كنيسة المُعزّية” تعلم جيّدًا أنّ إطلاق وعود إلهية بكلمات تعزية مُنمّقة نظريًا مثل “الرب صالح” أو “تحمّل، فالله سيُكافئك بأمور أعظم”، أو “أشكر الله على كل شيء”، هي حقيقةً تجميلًا لواقعٍ أليم مسودّ أو تفاؤلًا غير منطقي لمُتألّم وصلت كآبته أن تكون عظيمة جدًا مثل أيوب (أيوب 2: 13)[27]. فالكلمات بالنسبة له بلا فائدة والوعود بعيدة جدًا عن واقعهُ. فهو على الأغلب يرى الله نفسه غائبًا أو بعيد عن واقعه!. وحتّى فكرة أن نشكر الله على كلِّ شيء بعد مأساة يجب أن نُفكّر فيها قليلًا وننظر لها بحساسية قبل قولها، فهي قد تحمل فهمًا بأنّ الله مصدرًا لهذه الأزمات وشرورها. فبولس الرسول عندما قال في (1 تسالونيكي 5: 18) “اشْكُرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ اللهِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ مِنْ جِهَتِكُمْ”، فهو لا يقصد تقديم الشكر لله على حصول الشر والألم، فالشر يبقى شرًّا والألم يبقى ألمًا، وهما ليسا عطيّة الله. فالمقصود هنا هو الشكر على عطاياه ونعمته التي سنحصل عليها حتّى ونحن في وسط الأحداث الأليمة. ما أريد قوله أنّ الكلمات لا تُعطي رجاء ولا تعزية في مواقف فاق سوادها مستوى تحمّل الإنسان. فكل ما يحتاجه المُتألّم هو أن يرانا بجانبه ومتواجدين من أجله ولو بصمت.[28]
ثامنًا: الآلام كوسائل يسمح بها الله ليُدرّبنا على مهارة الفرح واستحضار النًعمة.
ليس المقصود من ذلك بأن نفرح لأننا نتألّم فكما قلت سابقًا، الله لا يتوقّع منّا الفرح في الأزمة لأنه يحترم مشاعرنا وقدراتنا ويعلم أنّ انسانيّتنا لا تحتمل الفرح بهذه الظروف. لكن به وحدهُ وبقوّة الروح القدس نتمكّن من الشعور بفرح داخلي وسط الألم، ومن هنا يأتي الصبر القوي الغير متوقع عند المؤمن. قال الرسول يعقوب: اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْرًا. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ. (يعقوب 1: 1-3).
يُعلّمنا النظر السليم للإيمان المسيحي أن نرى الأزمة كقناة لاستحضار النّعمة. وبالنّعمة يأتي ضبط النفس والنمو في المحبة. فالآلام قد يسمح بها الله لتساهم في أن ننمو في كل هذه مجتمعة. كثيرة هي ضغوطاتنا في الحياة، ولا يتوقف الامر على أزمة كبيرة او مُصيبة أو كارثة طبيعية. فالتوتر اليومي والاضطراب الروتيني وصعوبة الحياة على المستوى الاقتصادي والمعيشي والسياسي وحتّى الاجتماعي هي من الأمور التي كُلّما نمونا تنمو معنا. وهي ليست أسباب صغيرة، ويُمكنها بالتأكيد أن تُعكّر صحتنا النفسية وتُفشِل طموحنا وتُعطّل نمّونا الروحي وسلامنا مع الله. ولنتأكّد ان الله لا يعمل فقط ضمن ما نراهُ أزمة كبيرة بل قد يُرسل لنا رسائل متنوعة، ومنها المؤلم، مستخدمًا أدق تفاصيل حياتنا لإيصال نعمة لنا. نحن لا نستطيع مقاومة الظروف الصعبة الكبيرة أو حتّى التعايش المستمر مع الضيقات والأزمات الصغيرة دون مرافقة نعمة الله لنا. إنّ نعمة الله لا تعني أنّ الله سيعفينا من الألم والضّيق، لكنّ تعني الإيفاء بوعد الله الامين بنوالنا تعزية وقوّة والوسائل الكفيلة بمساعدتنا لاجتياز الألم والضيق ببركات أكبر.[29] فقد بذلك بولس الرسول حينما كتب: ” َقَالَ لِي: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضَّعْفِ تُكْمَلُ” (2 كور 12: 9). وما المحبة المسيحية الصّابرة الخادمة إلّا نِتاج لنعمتهِ الممنوحة، فلا يستطيع تقديم المحبة للناس إلّا من نما بالنّعمة. فما اجمل أزماتنا حينما نتخطّاها بتزايدِ في الحُب الاخوي الناضج. فالحُب هو شفاء القلوب المكسورة والعلاقات المجروحة وهدايةً للنفوس التائهة. فبالنعمة والمحبة سيصل الإنسان إلى قناعة بأهمية ضبط النفس في الازمات على القاعدة الإيمانية: ” يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ” (يوحنا 3: 30)، لأنّنا “نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ ” (رومية 8: 28).
تاسعًا: الله يسمح بالأزمات ليوجّه أنظارنا للصليب والقيامة والرّجاء الأبدي فيهما.
إنّ سر النضوج الإيماني ومهارة التعامل مع الأزمات واجتيازها بنعمة وفرح وسلام داخلي، هو أننا كمؤمنين نعيش بالرّجاء الذي قدّمه لنا المسيح. فصليب المسيح وقيامته هما عنوان رجائنا. ففي كل مرّة فيها تحنينا المآسي يدعونا صليب يسوع أنّ نتبصّر في واقع ألمنا، أن نرى يسوع المصلوب في آلامنا ووجعنا، في ظلامنا وحيرتنا. فآلام يسوع التي قاساها على الصليب لم تكن تضامنًا مع آلمنا فقط، بل إنها تُجسّد اختبار الآلام ذاتها. فكل ألم اختبره يسوع المُتألم على الصليب يُجسّد انتماء واقعي للخبرة البشرية المُتألمة. فهنا يكمُن سر حساسية الصليب لواقع الإنسان المتألّم وسر رجاءهُ وسرّ الحُب العظيم. فصليب يسوع كان أفضل قرار إلهي لإبطال الشر والألم والظُلم المفروض على الإنسان والخليقة، باختيار سلاح الحُب. وقد عرف بولس الرسول أهمية الصليب حين شهد: “وَأَمَّا مِنْ جِهَتِي، فَحَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ” (غلاطية 6: 14). فعلًا إنّ محبة الله تُقدَّر كثيرًا بمقدار احتضانها للإنسان وألمه. وإلى من قد يرى في الصليب حالة ضعف لله، فليتذكّر أَنّ الصليب لا ينتقص من قيمة ومكانة الله السامية، بل إنّ حالة الضعف التي أبداها يسوع على الصليب إنّما جسّدت قوّة محبة ورأفة الله وحنانه وقداسته تجاه الإنسان والخليقة، وفي الوقت نفسه كانت حالة الضّعف هذه هي مصدر إعلان سلطان الله سلطان وسيادته على الكون، مُنتصرة على كلِّ شرٍّ وألم.[30] ويقول هنري بلوشر Henri Blocher في كتابه “الشر والصليب” إنّ انتصار الله على الشر والخطيئة والظُلم بالنسبةِ لنا هو أعظم من وجود الشر نفسه.[31]
إنّ صليب وقيامة يسوع هما توأمان لا ينفصلان. فالمجد الموعود القادم من الرب سيتحقق كليًا بقيامة المسيح المُتألم. هنا تُرفع راية الانتصار على كلِّ شر، كما تُرفع راية انتصار الإنسان المُتألم على واقع ألمه. هنا يُعاين المتألمين طبيعة الحياة الجديدة مع الرب وهو ما وصفه يوحنا في (رؤيا 21: 1-5) “ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا، وَالْبَحْرُ لاَ يُوجَدُ فِي مَا بَعْدُ”. وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا. وَسَمِعْتُ صَوْتًا عَظِيمًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلًا: هُوَذَا مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ، وَهُوَ سَيَسْكُنُ مَعَهُمْ، وَهُمْ يَكُونُونَ لَهُ شَعْبًا، وَاللهُ نَفْسُهُ يَكُونُ مَعَهُمْ إِلهًا لَهُمْ. وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ. وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا.
إنّ القيامة التي نحتفل بها اليوم بالممارسات الدينية والشعائر ليست هي ما نتفاخر به في إيماننا، بل إنّ عزّ فخرنا يكمن بقيامة المسيح لما أظهرته حياتهُ من صدق أقولهُ واستقامة أفعاله ونُبْلِ أفكاره ومواقفه بتقبّلهِ جميع الناس دون تصنيف خاصةً المُتألمين والحزانى والفقراء والمُتعبين، فهو من أسس ملكوت الله لاحتضانهم ورفع شأن الإنسان والإنسانية وحرّرها من كل نوع عبودية. َبقيامته تجلّت شراكة الله الفعلية مع الإنسان في أنبل صورها.[32]
- القرار لك اليوم.
نحن أبناء اليوم…
لنتذكّر أنّ الله في الأزمة والضيق لم يتركنا بل وضع الحل بين أيدينا. إمّا أن نتعامل مع أزماتنا كوسائط نعمة يتواصل الله معنا من خلالها فينشئ فينا نضوجًا روحيًا وفكريًا وفهمًا أعمق لشخصه وطبيعة تعاملاته أو نتجاهل وجوده ونعيش مُتكلين على إرادتنا.
لنتذكّر بأنّ الله موجود معي ومعك بصورة أعمق جدًا مما نُدرك او نفتكر. فهو صاحب السلطان، خالق الأكوان. فالموضوع ليس لماذا الشر مازال موجودًا، فليست المسألة هي القضاء على الشر، ففي حكمة الله يكمن نضج المؤمن في امتلاك نظرة مختلفة ناضجة مؤمنة بترتيبات الرب وصلاحه التي تحمل لنا التعزيات والبركات وسط الأحداث الشريرة أو المؤلمة. الله موجود بفاعلية وهو ليس صامتًا ولا يأخذ دور المُتفرّج في أزماتنا، لكن يريدنا أن نتعلّم مهارة وروحانية تمييز صوته وسط ضوضاء العالم، كما تميّز الخراف راعيها.
لنتذكر بأنّ الله يعلم حجم ضيقاتنا، لكن كلمة الله تُخبرنا بأنه ليس معنا فقط، بل ويُرافقنا في ضيقاتنا، فهو أقرب إلى الإنسان من نفسه، فيعرف مشاعرنا ويفهمها ويسمح لنا بالتعبير عنها بالتساؤل والعِتاب والصراخ. وتدعونا كلمة الله في هذه المواقف إلى النظر للصليب، ونرفع عيوننا إلى من تألم وصرخ: “إلهي إلهي لماذا تركتني” فنشعر أنّ يسوع في قمّة آلامه يصرخ معنا وكلماته هذه إنّما تُمثّل صرخات كل واحدٍ منًا![33]
وفي النهاية، لنكن مُتأكّدين بأنّ الله لم يعفينا من الظروف الصّعبة، لكنّ برفقته يتغيّر مفعول الأزمة فنرى الحلاوة تخرج منها، ليس لأّن الضيق أصبح حلو والشر مريح. فالضيق يبقى شديد والشر مُر، لكنها حلاوة الرب في وسطها. وهنا يكمن فرحنا. فهو الذي يُخرجُ من الجافي حلاوة (قضاه 14:14)،[34] وسيُخرُج من وسط آلامنا ينبوع نعمةً وبركات، وسيحوّل آلامنا إلى مجدٍ، فنتمجّد معه عند انقضاء الدهر. ما علينا إلّا نُقدّسه في حياتنا خصوصًا في أوقاتنا الصعبة، ونُخبر عنه بفرح ونشهد له واثقين برجائنا فيه (1 بطرس 3: 15)[35].
وبعد كلّ هذا، كمؤمنين اليوم، علينا تغيير خطابنا الموجّه إلى الله في الأزمات، فلا نعود نلوم ونتحسّر بلماذا أنا يا رب؟ وأين أنت، لماذا تركتنا؟ بل نرفع قلوبنا وأنظارنا إليه، فنسأله: ماذا تريد أن تُعلّمنا من الأزمة؟
قائمة المراجع العربية
إبراهيم، القمص. والقمص تواضروس عازر. لماذا يا الله؟: رسالة عزاء. رسالة سلام. رسالة رجاء. مصر: لجنة التحرير والنشر لمطرانية بني سويف، 2011.
باركر، مايكل. ” كيف نتعامل مع الألم في العالم” كليّة اللاهوت الإنجيلية – القاهرة. تمّ الاطّلاع عليه في 25-10-2021. مُتاح على:https://etsc.org .
لويس، سي. اس. الله – الإنسان والألم. ترجمة هدى بهيج. Sparkle Printing Solutions، 2014.
عون، الأب مشير باسيل. محنة الإيمان: اجتهادات ومساءلات في الفكر المسيحي. بيروت: دار المشرق، 2005.
ميخائيل، د. ق. لبيب. مشكلة الألم. القاهرة: لوجوس سنتر، 1998.
فرناندوـ أجيث. الحياة الروحية في عالم مادي: أهمية الانخراط في العلم دون المُساومة على مبادئنا المسيحية. الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2009.
قسيس، عماد. “صمت الله في الضيقات. لماذا لا يتدخّل الله؟” مطرانية الروم الكاثوليك – الجليل. من دون تاريخ نشر. تمّ الاطّلاع عليه في 22-10-2021. مُتاح على: https://logosofgalilee.com.
قسيس، رياض. عندما ينقطع الإنترنت!: ما يقوله النبيُّ حبقوق لنا عن الألم والمعاناة. الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2016.
ثيودور خوري، عادل. وبيتر هونرمان. لماذا الألم؟: جواب الأديان الكُبرى. لبنان: المكتبة البوليسية، 2011.
غبريال، م. سامي. المرض والألم: محاولة للفهم. مصر: دار عمانوئيل للطباعة، 2017.
غراهام، بيلي. “الله سر الأسرار: كيف تستعد لمواجهة الألم؟” مجلة لوجوس، 40-55.
رايت، كريستوفر. “الكنيسة الخادمة في زمن المِحّن”. في النسور (يناير 2021)، 80-83.
صموئيل، ماهر. “كيف يواجه المسيحي الأزمات؟” (20 مارس 2020)، تاريخ الاطّلاع عليه 23-10-2021. مُتاح على: https://www.youtube.com/watch?v=IQiQqz3a3Z0.
مراجع انجليزية
- Henri Blocher, Evil and the Cross: Christian thoughts and the problem of evil. England: Hodder and Stoughton Ltd. Inter-Varsity Press, 1994.
[1] رياض قسيس، عندما ينقطع الإنترنت: ما يقوله لنا حبقوق عن الألم والمعاناة، (الأردن: أوفير للنشر، ط1، 2017)، 8.
[2] عماد قسيس. “صمت الله في الضيقات. لماذا لا يتدخّل الله؟” مطرانية الروم الكاثوليك – الجليل. من دون تاريخ نشر. تمّ الاطّلاع عليه في 22-10-2021. مُتاح على: https://logosofgalilee.com.
[3] رياض قسيس، عندما ينقطع الإنترنت: ما يقوله لنا حبقوق عن الألم والمعاناة، (الأردن: أوفير للنشر، ط1، 2017)، 11.
[4] عادل ثيودور خوري وبيتر هونرمان، لماذا الألم: جواب الأديان الكُبرى، (لبنان: المكتبة البوليسية، 2011)، 161.
[5] القمص إبراهيم والقمص تواضروس عازر، لماذا يا الله؟: رسالة عزاء. رسالة سلام. رسالة رجاء (مصر: لجنة التحرير والنشر لمطرانية بني سويف، 2011)، 58.
[6] عادل ثيودور خوري وبيتر هونرمان، لماذا الألم: جواب الأديان الكُبرى، (لبنان: المكتبة البوليسية، 2011)، 167.
[7] كريستوفر رايت، “الكنيسة الخادمة في زمن المِحّن” في النسور (يناير 2021)، 81.
[8] ماهر صموئيل. “كيف يواجه المسيحي الأزمات؟” (20 مارس 2020)، تاريخ الاطّلاع عليه 23-10-2021. مُتاح على: https://www.youtube.com/watch?v=IQiQqz3a3Z0.
[9] سي لويس، إس، الله – الإنسان والألم، (Sparkle Printing Solution، 2014)، 97.
[10] ماهر صموئيل. “كيف يواجه المسيحي الأزمات؟” (20 مارس 2020)، تاريخ الاطّلاع عليه 23-10-2021. مُتاح على: https://www.youtube.com/watch?v=IQiQqz3a3Z0.
[11] القمص إبراهيم والقمص تواضروس عازر، لماذا يا الله؟: رسالة عزاء. رسالة سلام. رسالة رجاء (مصر: لجنة التحرير والنشر لمطرانية بني سويف، 2011)، 73.
[12] كريستوفر رايت، “الكنيسة الخادمة في زمن المِحّن” في النسور (يناير 2021)، 81.
[13] سي اس لويس، الله – الإنسان والألم، (Sparkle Printing Solution، 2014)، 95.
[14] رياض قسيس. عندما ينقطع الإنترنت. ما يقوله لنا حبقوق عن الألم والمعاناة، (الأردن: أوفير للنشر، 2017)، 23.
[15] المصدر ذاته، 43.
[16] رياض قسيس، عندما ينقطع الإنترنت، ما يقوله لنا حبقوق عن الألم والمعاناة، (الأردن: أوفير للنشر، 2017)، 46.
[17] لبيب، د. ق. ميخائيل. مشكلة الألم. (القاهرة: لوجوس سنتر، 1998)، 107.
[18] سي اس لويس، الله – الإنسان والألم، (Sparkle Printing Solution، 2014)، 97.
[19] المصدر ذاته، 93.
[20] أجيث فرناندو، الحياة الروحية في عالم مادي: أهمية الانخراط في العلم دون المُساومة على مبادئنا المسيحية، (الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2009)، 171.
[21] بيلي غراهام. “الله سر الأسرار: كيف تستعد لمواجهة الألم؟” مجلة لوجوس، 40.
[22] أجيث فرناندو، الحياة الروحية في عالم مادي: أهمية الانخراط في العلم دون المُساومة على مبادئنا المسيحية، (الأردن: أوفير للطباعة والنشر، 2009)، 175.
[23] م. سامي غبريال، المرض والألم. محاولة للفهم، (مصر: دار عمانوئيل للطباعة، 2017)، 25.
[24] القمص إبراهيم والقمص تواضروس عازر، لماذا يا الله؟: رسالة عزاء. رسالة سلام. رسالة رجاء (مصر: لجنة التحرير والنشر لمطرانية بني سويف، 2011)، 82.
[25] لبيب، د. ق. ميخائيل، مشكلة الألم، (القاهرة: لوجوس سنتر، 1998)، 117-118.
[26] كريستوفر رايت، “الكنيسة الخادمة في زمن المِحّن” في النسور (يناير 2021)، 82.
[27] وَقَعَدُوا مَعَهُ عَلَى الأَرْضِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَسَبْعَ لَيَال، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ أَحَدٌ بِكَلِمَةٍ، لأَنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ كَآبَتَهُ كَانَتْ عَظِيمَةً جِدًّا.
[28] مايكل باركر. ” كيف نتعامل مع الألم في العالم” كليّة اللاهوت الإنجيلية – القاهرة. تمّ الاطّلاع عليه في 25-10-2021. مُتاح على:https://etsc.org .
[29] لبيب، د. ق. ميخائيل. مشكلة الألم. (القاهرة: لوجوس سنتر، 1998)، 132.
[30] الأب مشير باسيل عون، محنة الإيمان: اجتهادات ومساءلات في الفكر المسيحي، (بيروت: دار المشرق، 2005)، 134-135.
[31] Henri Blocher, Evil and the Cross: Christian thoughts and the problem of evil, (England: Hodder and Stoughton Ltd. Inter-Varsity Press, 1994)103.
[32] الأب مشير باسيل عون، محنة الإيمان: اجتهادات ومساءلات في الفكر المسيحي، (بيروت: دار المشرق، 2005)، 139.
[33] رياض قسيس، عندما ينقطع الإنترنت. ما يقوله لنا حبقوق عن الألم والمعاناة، (الأردن: أوفير للنشر، 2017)، 106.
[34] فَقَالَ لَهُمْ: مِنَ الآكِلِ خَرَجَ أُكْلٌ، وَمِنَ الْجَافِي خَرَجَتْ حَلاَوَةٌ (قضاه 14: 14).
[35] بَلْ قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ.