كلمة الأب الدكتور جمال خضر في حفل إطلاق كتاب: “أرض المسيح-صرخة فلسطينية”

كلمة الأب الدكتور جمال خضر في حفل إطلاق كتاب: “أرض المسيح-صرخة فلسطينية”

-الأب الدكتور جمال خضر رئيس المعهد الإكليريكي في بيت جالا

ما كان يُعتقد قبل زمن أنه من الأمور صعبة الحدوث أصبحت ممكنة، فلإطلاق كتاب لمؤلف إنجيلي، ها هو كاهن كاثوليكي يقدّم الكتاب! وها هو قسيس معمداني يتحدث عن الكتاب المقدس بلغة العدالة الاجتماعية! وطريقة تفسير الكتاب المقدس تتم تحت مظلة اللاهوت (لا نستطيع أن نفهم التاريخ الديني في الأسفار المقدسة دون اللاهوت).

لكن الأهم في كتاب القس الدكتور يوحنا كتناشو هو هذه الإضافة المميزة للمكتبة العربية المسيحية. ويمكن مقارنة لائحة الكتب باللغة العربية مع المراجع والمصادر باللغات الأجنبية في نهاية الكتاب لندرك أننا بحاجة إلى الكتاب الجديد (أرض المسيح) لإغناء معرفتنا وتعمقنا بمواضيع الكتاب المقدس، وليس فقط عرض نتائج دراسات سابقة تمت بلغات أجنبية.

الكتاب كتب أولاً باللغة الإنجليزية The land of Christ، تم ترجمته وملائمته للغة العربية للقارئ الفلسطيني والعربي. فعندما كتب الكتاب بالانجليزية، كان القارئ المستهدف هو المهتمين باللاهوت من خارج السياق الفلسطيني والعربي، وعندما ترجم الكتاب، اختلف القارئ المستهدف لذلك تمت موائمته للقارئ الجديد. ولذلك كانت الترجمة موفقة إلى حد بعيد.

يُدخلنا المؤلف في عالم الكتاب المقدس من زاوية دراسة موضوع الأرض، ولكن الكتاب يدخلنا إلى عالم المؤلف أيضاً. حيث يعرض خبرته الروحية الخاصة، وصراعه مع وصية محبة الأعداء. والخبرة الشخصية خاصة عندما تكون روحية، لا يتم تقييمها أو التعليق عليها، بل يتم الاصغاء لها بذهن منفتح وقلب منفتح. مع تقديرنا للكاتب أنه فتح لنا قلبه ليشاركنا بمسيرته ومعاركه الروحية.

عندما يقرأ الفلسطيني المسيحي الكتاب المقدس، يقرأه على أنه تاريخ خلاص، ومسيرة الله مع شعبه التي توّجت بتجسد ابنه يسوع المسيح. ولدينا أبناء هذه البلاد سبباً إضافياً لنحب الكتاب المقدس يميزنا عن باقي المسيحيين في العالم وهو أن الكتاب المقدس يتحدث عنا! يتحدث عن بلادنا عن مدننا وقرانا، سهولنا وجبالنا، عن ثقافتنا واسلوب حياتنا. لكن عندما نحتك بالمسيحية واللاهوت المسيحي في الغرب، نرى أن قراءتهم للكتاب المقدس واللاهوت الكتابي يتمّان في سياق تاريخي وثقافي مختلف. وهذا الاحتكاك ليس سهلاً في العديد من الأحيان، كما هو الأمر في موضوع لاهوت الأرض.

وهذا ما يضعنا في موقع الدفاع عن لاهوتنا وقراءتنا للكتاب المقدس. والخطر في اللاهوت أن يصبح دفاعياً وليس متزناً أصيلاً.

يعرض لنا الكاتب أنواع اللاهوت الكتابي والخلفيات اللاهوتية لهذه المدارس اللاهوتية، وقد يشكل ذلك بعض الصعوبة للقارئ العربي، بما في ذلك ترجمة بعض المصطلحات. لكن التعرف عن قرب على هذه المدارس اللاهوتية الكتابية ضروري لفهم القراءة الغربية للكتاب المقدس وتأثير هذه المدارس علينا وعلى لاهوت الأرض تحديداً. فكيف نستطيع أن ندخل في حوار مسيحي مسيحي حول قضايا مصيرية كلاهوت العهد ولاهوت الأرض؟ فإذا أردنا ان نعرض قضايانا اللاهوتية والتي تمس حياتنا ومصيرنا بطريقة يفهمها العالم، علينا أن نعرف السياق الغربي واللاهوت الغربي، وفي ذلك إغناء لثقافتنا اللاهوتية ولتأثيرنا في اللاهوت في الكنيسة.

من المواضيع الأساسية في الكتاب هي محورية يسوع المسيح ليس فقط في إيماننا وخلاصنا، بل في قراءة وفهم الكتاب المقدس. فهو الذي “جميع مواعد الله لها فيه “نعم” (2 كور 1، 20). وهو الذي يفسر لنا موسى وجميع الأنبياء (لو 24، 27) كما فسرها لتلميذي عمواس صباح القيامة. فالتأكيد على وحدة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يجعل من السيد المسيح قمة ومحور مخطط الله مع البشر، وبالتالي محور الكتاب المقدس نفسه. فالمعنى الحقيقي للوعود بالأرض تجد معناها الحقيقي في يسوع المسيح. ولن أدخل في عرض نتائج هذه الدراسة لكي لا أفسد عليكم متعة قراءة الكتاب والسير بالخطوات المختلفة التي يقودنا بها الكتاب.

إن التفسيرات والتوضيحات المختلفة حول ما هي اسرائيل؟ ما هي حدود الأرض؟ وما معنى الوعد بالأرض؟ والفرق بين اليهودي والاسرئيلي والعبراني، ضرورية لفهم سياق العهد القديم وتفنيد حجج من يقومون باختيار مجموعة محدودة من الاقتباسات من العهد القديم ويقدمونها بناءً على ايديولوجيات دينية. لكن المعنى الحقيقي يظهر في العهد الجديد بتجسد يسوع المسيح الذي هو النور الذي ينير كل إنسان (يو 1، 9). ومن يقرأ كتاب “أرض المسيح”، يرى في خلفية الكتاب جواباً من الكتاب المقدس ونصوصه على من حوّل الكتاب المقدس إلى ايديولوجية دينية تتبنى وجهات نظر سياسية.

الكاتب القس يوحنا كتناشو هو أحد كاتبي وثيقة وقفة حق الفلسطينية، وقد بدأنا معاً منذ المراحل المبكرة في التفكير حول المبادرة المسيحية الفلسطينية. وفي الفصل الخاص بعرض لاهوت وثيقة الكايروس يقدم لنا القس يوحنا جانب من النقاشات والحوارات التي تمت قبل وأثناء كتابة الوثيقة. كما يقدم لنا غنى التنوع بين المؤلفين. ويبرز جانب الإيمان المسيحي من خلال تعابير كتابية مثل الحب والعدل والرجاء، ومحورية يسوع المسيح لفهم مواضيع مثل الوعود والأرض والاختيار.

ما ورد في الكتاب مساهمة هامة للتعمق في وثيقة “وقفة حق” والخلفية الكتابية لما ورد بها. فما ورد في الوثيقة في المواضيع اللاهوتية قصير ومختصر نوعاً ما، ولهذا ساهم العديد من كتّاب الوثيقة في شرح الخلفية اللاهوتية كما ورد في الوثيقة. وكتاب “أرض المسيح” إضافة نوعية خاصة من النواحي الكتابية، ومن ناحية المقاربة الفلسطينية مقارنة مع المقاربات الأخرى في قراءة ودراسة الكتاب المقدس.

لا نتوقع من أي كتاب أن يغطي مختلف الجوانب، لغنى المواضيع التي يطرحها الكاتب. فالكاتب ينطلق من هويته كفلسطيني مسيحي، ثم كإنجيلي معمداني، دارس ومدّرس للكتاب المقدس. وموضع لاهوت الأرض طرح في أواسط إنجيلية وهذا ما يحدد نقطة الإنطلاق للكتاب. ففي عرضه للمدارس المختلفة للاهوت الكتاب المقدس، لا تذكر مثلاً المدارس الأوروبية، خاصة في مرحلة ما بعد الهولوكوست، وهي مدارس لا تتبع لكنيسة معينة، لكن تأثيرها واضح على نظرتهم للمواعد والأرض، وبالتالي على ينعكس ذلك على مواقفهم السياسية المؤيدة لاسرائيل على حساب الحق الفلسطيني في هذه الارض.

كما أننا لسنا أول من قرأ الكتاب المقدس، هنالك أجيال من المسيحيين قرأت هذه النصوص، والعودة إلى هذه القراءات تساعدنا على فهم أفضل لها. وهذا لا ينفي أهمية أن نقرأ الكتاب المقدس في السياق الخاص بنا، وفي هذه الحالة، السياق الفلسطيني، لنرى ما تقوله لنا كلمة الله اليوم وهنا.

أود أن أختم بقصة هاجر. فهذه القصة والدراسة لها في نهاية الكتاب، تقدم لنا نموذجاً في قراءة الكتاب المقدس. فليس المقصود بالقصة مجرد عبرة، بل هي نموذجاً ودرساً لنا اليوم، في أن نتحول من ضحية إلى بركة، نتحول من الشكوى من الظلم إلى الاصغاء إلى صوت الله فينا الذي يدعونا أن نبارك لا أن نلعن. فإذا كانت هاجر صورة المظلوم المضطهد اللاجئ، فهي صورة التي أصغت إلى كلمة الله فتحولت إلى بركة حتى للذين ظلموها.

شكراً قسيس يوحنا، شكراً على التزامك وكتاباتك، وليجعلك الله بركة لمن يعرفونك.